أنت نافذة، هم غيوم | ثلاثة نصوص

photoo.uk

 

(1)

خلال النافذة

 

في النافذة

خبّأتُ بلادًا ألّفْتُها حديثًا

أهديتُها نجوم السماء

فبكت الغيوم وأفسدتني

...

من النافذة

مدّ البحر إليّ بأمواجه لأكتب عليها

وقبل أن أكتب قارب نجاةٍ واحدًا

أغرقني!

...

من النافذة

رأيت بالوناتٍ تنفجر

تلخّص ببساطة الماضي

تجارب الناس في النجاة من الحياة!

...

على النافذة

تزاحمتْ حروبٌ تلعن الألقاب

وفوضى قريبةٌ في كلّ أفقٍ بعيد

فأدركتُ كم أنّ الأرض بلا استراحة

تقلّد السماء

...

خلال النافذة

لم أمتْ ولم أولد

ولم أبق ككثيرين:

مرتاحًا في بساطة المجهول وأنفاس الوقت

دون نورٍ أو ظلام

دون أسئلة!

 

(2)

غزّة تحاصرني

 

مرّت لغةٌ مختنقةٌ وزمنٌ متضخّمٌ

مرّت أماكن بلا انفعالاتٍ

نجوتُ أخيرًا من خمسين هدفًا

ولم أكنْ مرمى!

نجوتُ من خمسين فكرةٍ

ولم أكنْ شيطانًا

نجوتُ، فرحتُ، وطرتُ

ناسيًا أنّني يومًا تمنّيتُ النجاة

...

في الحافلة طريقٌ طويلة!

كلّ شيءٍ كان يثقلني طار بخفّة:

أين ذهبتْ كلّ الحروب؟

أين ذهبتْ الأشياء الّتي لم ألوّنْها؟

وكيف كانت فيّ...؟!

...

أين ذهب الحبّ والأشرار

أين ذهب النوم والكلام

حين أغمضتُ عينيّ البعيدتين

وألصقتُ رأسي بزجاج الحافلة؟

ولِمَ بالقرب من نافذة روحي المفتوحة

تحلّق هذه الأشباح؟!

...

ممدّدًا على سريرٍ مريح

في الفندق، أنتظر النوم

تحاصرني السلالم الكهربائيّة

والطرق الخضراء على جانبيّ الطريق

تحاصرني شاشة السينما

والملابس الّتي كانت تلمع في دمي

تحاصرني القصص المغلقة عن كلّ ما كان

يحاصرني كلّ شيءٍ مررتُ به

دموعي نفسها تموت قبل أن تولد

وتحاصرني!

...

وحيدًا، بلا أصدقاء يسكرنا الضحك!

أحدّق من نافذةٍ لا تطلّ عليّ

في مصابيح مضاءة طوال الوقت

وطرقٍ ومبانٍ خاليةٍ منّي

منتظرًا أن تزعجني الطائرات الحربيّة

أن تنقطع الكهرباء

أن يسقط بيتٌ مجاورٌ

وأن يظهر الخالق

دون حكمةٍ يدركها أحد

...

لا أريد كهرباء لا تأخذ استراحة

أو وجوهًا بأحلامٍ لا تطيق الانتظار

يتجوّلون ببساطةٍ عبثيّة

في المدينة الأكبر منّي

لا أريد شيئًا من هذا أو ذاك

يا الله

كم أنّ الجمال أكثر إيلامًا من الحرب!

...

تحاصرني غزّة

الّتي كانت كلّ كرتي الأرضيّة

مدينتي، بيتي، أماكني البسيطة

بحري، سمائي، وكلّ نوافذي

وجوه أصدقائي، كلماتهم

غبائي، حدودي، جنوني!

ماذا يريد الحصار؟

أشعر بالغيرة من باقي المدن!

وأحلم بغزّة عروسًا مثلها

قبل أن يقتلها الوقت والناس

مرّةً أخرى

 

 

(3)

غياهب

 

غيّرتَ مَنْ أردتَ

بدّلتَ وجودكَ بوجودٍ آخر

ثمّ لمتَهم على ذلك كلّه

وسرتَ وحدكَ صباحًا في ليلك

كعجوزٍ تزرع إيمانها على جانبيّ الطريق

...

فضّلتَ أن تكون وحيدًا

فصار الفرح حزنًا متكاتفًا

في طريقه إلى القيامة

وصار وجودكَ ثقبًا أسود

من ذنبٍ ولعنةٍ

فظننتَه كان كذلك منذ الأزل!

...

شاهدتْكَ كلّ الفصول والظواهر

تتجوّل بلا عينين بين المرايا

تحاول تكسيرها

قبل أن تفضح صورُها حياتَك

الّتي كانت سلسلةً من انتظارات

فصارت سلاسل من ركام!

...

لم يكن قرارًا أن يجرحك

لم يكن شرّيرًا منذ الصباح

فكيف أصبح عدوًّا ولم تكن إلّا ضحيّة؟!

هذا ما قالته الثمانية عشر عامًا منك

بينما كنتَ تعيد تدوير الماضي

ولا تصل إلى حاضرك

...

فيما كنتَ ترقص منفردًا

تتذوّق طعمًا آخر لإغماضة العينين

تمايلتْ ذكرياتكَ في سائر جسدك

وتمنّيتَ لو أنّكَ لم تدرك

كم كان الكره وهمًا ثقيلًا في النهاية!

...

كنتَ بحرًا يخفي في قلبه شمسًا كلّ يوم

كنتَ حارسًا للغة الضحك

وسائحًا في قلبه حكاياتٌ يسمعها الصمت

كنتَ شبح الرواية الّذي كان دومًا يلاحقك

لكنّكَ فجأةً ركضتَ وحدكَ إلى كونٍ جديد

يخفي ما يخفيه

 

 

* "أنت نافذةٌ هم غيوم"، مجموعة شعريّة مكوّنة من 22 نصًّا شعريًّا، تقع في 64  صفحة من القطع المتوسّط. لوحة الغلاف والتصميم الداخليّ للفنّانة الفلسطينيّة نتالي نجّار، صدرت في رام الله عن "مؤسّسة تامر للتعليم المجتمعيّ" عام 2018، وتعكس المجموعة تجربة الكاتب يافعًا عاش الحرب والسفر والصداقة والحبّ والرغبة في اكتشاف ذاته والعالم في رأسه ومن حوله.

 

 

يحيى عاشور

 

شاعر فلسطينيّ من مواليد غزّة عام 1998. يدرس علم الاجتماع وعلم النفس في جامعة الأزهر – غزّة. عضو في عدد من الأطر والمبادرات الأدبيّة والأكاديميّة. حصل من "برنامج اليس" على منحة للتبادل الثقافيّ مدّتها عام في ولاية أوهايو الأمريكيّة. له مجموعة شعريّة بعنوان "أنت نافذة... هم غيوم" (مؤسّسة تامر للتعليم المجتمعيّ، 2018)، وهو حاصل على جائزة "كتابي الأوّل" من مؤسّسة تامر.